التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هذه أصواتهن وتجربتهن في الميزان النقدي الحلقة 3 الأسطورة صباح من الصوت الجبلي الحاد إلى جامعة في الأداء


بقلم\\ جهاد أيوب
• صوتها قوي بنبراته العريضة وحالة خاصة في الطرب العربي
• لحنت جميع مواويلها التي ابتكرتها في بلاد الشام ارتجالاً وعفوياً
• صباح غنت صباح وأضافت روحها وشخصيتها على فنها
• "مال الهوى" كشفت عن مقدرات صوتية كانت غائبة عن ما غنته سابقا

      صباح :  ( Mezzo Soprano )، وفي مراحله الأخيرة أصبح ( alto ).
صوت الأسطورة صباح جبلي وعاطفي ويطرب، ونوعه في أفضل حالاته ميزو سوبرانو، وحينما كبرت في السن أي بأخر مراحله كان التو، ويمتاز بقوته وبنبراته العريضة غير المزعجة، وهو حالة خاصة في الغناء والطرب العربي بشكل عام، لذلك حينما يقال صباح هي الصوت والباقي صدى ليس عبثا بل حقيقة.
اشتهرت صباح منذ البداية وبعمر السبع سنوات بالغناء الارتجالي، والتصرف العفوي عبر ابتكار الموال الذي كانت تغنيه على طريقة الزجل، وأدخلت عليه تطويل  وسحبة الأوف والنفس دون أن تدرك ماذا تفعل آنذاك، ومع الزمن وتكوين الشخصية وضعت منهجاً خاصاً بموال بلاد الشام وتحديداً في لبنان بقدرات المرأة، ووديع الصافي أيضاً وضع منهجاً خاصاً بالموال بقدرات الرجل.
قبل صباح ووديع لم يكن لدينا ما يغنى اليوم من موال، ولا طريقة خاصة بالأغنية، من سبقهما كان يغني الموال والأغنية المصرية والبغدادية والقدود، ويعود الفضل في نشر الغناء اللبناني الارتجالي مع الموال محلياً وعربياً إلى صباح دون غيرها، وبالطبع لو لم يكن لديها الحنجرة القوية والذهبية، والنفس القوي الذي أخاف أهم المطربين والمطربات، ومعرفتها الواسعة بالمقامات، والتنقل من نغم إلى أخر بسلاسة ودون إزعاج لأختلف الموضوع  والوضع كلياً.
كما يعود الفضل الأول في نشر الأغنية اللبنانية والشامية في الوطن العربي إلى صباح، وتحديداً من خلال الأفلام المصرية التي شاركت فيها، واشترطت أن تغني اللبناني.
الاعتراف
تعترف صباح في أكثر من لقاء أنها هي التي لحنت جميع مواويلها إلا ما ندر، وكان فريد الأطرش، وعبد الوهاب، و فيلمون وهبي وكل من لحن لها يترك لها حرية التصرف والتلحين في أداء الموال داخل أغنية حملت اسم غيرها لحنياً!
عندما ذهبت صباح إلى مصر بعمر 14، وأخذت تغني لم تقنع الملحنين والمتخصصين، وقال عنها النقاد:" تمثل، وجميلة، ولا بأس إن غنت فصوتها من الأصوات الملساء التي تفتقر إلى الملامح والتفاصيل"!
آنذاك كانت جانيت وفيما بعد صباح مندفعة ،تؤدي بتسرع رغم رشاقتها، وتستعمل جيوبها الأنفية، وفتح الفم والصوت الطالع من الرأس بعباطة وخطورة على طبيعة صوتها الجبلي والحاد، وقد يتحطم مع الزمن، ويفتقر للشجن والرومانس والحلم، ولكن صباح التي قيل بأن صوتها مطواع، ويحمل طيبة لم تستسلم وتنزوي، فتعرفت على عيوب صوتها منذ البداية، وعالجته خلال مسيرتها، ورعته، وهي من اكتشف قوته وأعماقه وتحدته، ومن خلال الأغاني اللبنانية، ومهرجانات المفتوحة، أصبح صوت صباح صوتاً جبلياً جلياً واسع المساحة بامتياز، وصوتاً مصريا أنيقاً جاذباً وذكياً يتفوق بخصوصيته مما جعل غالبية الشعب المصري يتفق على أن صباح "بتاعتنا ومننا وبلدياتنا".
الزمن في صوتها
مع الزمن أصبح صوت صباح كبير المقدرة على أداء كل أنواع الغناء، وذات امتدادات صوتية سليمة، ينتقل صاعداً من طرفه الثقيل إلى طرفه الحاد وبالعكس، ممتداً على أربعة عشر مقاماً سليماً يندر أن تتمتع بها مطربة لبنانية وعربية حالياً.
عملت صباح على تثقيف صوتها بنفسها وبجهودها، ولونته، ولعب زكريا أحمد، ورياض السنباطي والقصبجي دوراً مهماً في البدايات، لكن صباح كانت ميالة أكثر لأعمال عبد الوهاب وفريد الأطرش وأبناء جيلها أمثال وديع الصافي والأخوين رحباني، وحتى لا تعيش انفصاماً، وهي الصبية والرشيقة، ويصرون عليها أن تتعامل مع شيوخ التلحين هرولت إلى ما يشبهها، والتقت بالملحن كمال الطويل، وقدما " مال الهوى"، أغنية فيها ميول إلى الحزن والشجن، هذا اللون الجديد عليها كشف عن قدرات صوتية عالية، وقدرة في الأداء المتقن والتلوين الذكي، وفي تلك الفترة بالذات خف وهج وعمل وحضور غيرها من الأصوات، علماً النقاد قالوا أن غناء صباح سيختفي، والمستقبل لأصوات أقوى من صوتها، ولكن حدث العكس لأنهن متشابهات مقلدات بينما صباح أصبحت لوناً جديداً ومتفرداً لا يشبه إلا صباح، وبدأت صاحبته باستيعاب ما ستكون عليه، وأخذت تزخرف صباح بصباح، وتتعمد الارتجال وتقديم العرب دون تصنع، وأداء الصوت المرتفع دون إزعاج، لذلك كان يقال صباح تغني صباح، وتجعل من اللحن البسيط والعادي قيمة وأكثر انتشاراً لأنها تستخدم صباح، وقد تكون صباح ووديع الصافي فقط يقفان على المسرح ويغنيان مباشرة مع عازف عود وعازف كمنجة وضابط إيقاع دون أن ينشزا، وتسجيلات بعلبك الحية شاهدة على ذلك، خاصة ما قدماه مع الأخوين رحباني، وكان عاصي وتوفيق الباشا يقولان:" لم نطلب تصحيح أداء صباح خلال الغناء المفتوح في بعلبك، كانت تصر أن تغني كما لو كانت حفلة كبيرة رغم وجود ثلاثة عازفين فقط، وتنسى أنها في مسرحية فتبدع في الأداء الصحيح.
على صعيد نَفَس صباح وتحكمها به، وتطويل الموال من خلاله مع سحبة تصيب الجمهور بهستيريا الجنون، وكذلك من يسجل لها داخل الاستديو هي رائدة ومتفردة بذلك اللون، وحينما حصلت على الجنسية الأميركية طلب منها أن تقوم بالتأمين على حنجرتها، فصباح كانت تتحكم بالحجاب الحاجز، وتأخذ ما تريده من هواء تخزنه لتعطي طول النَفَس والمدة المصحوبان بالصوت الهادر غير المزعج، والمؤدى بتوازن داخل النوت والميزان الموسيقي، وقد تصل الديوانين!
صباح تتحكم بدرجة صوتها القصوى الحاد والغليظ واللين وخفوته مع ألحنية الناعمة التي تدخل عليها صباح غنجها ودلالها دون ابتذال، وكانت تقول لها أم كلثوم حينما تصل إلى ما أشرنا إليه:" إي ده يا مجنونة، إنت بتعذبي صوتك بالموال الخطير كدة ليه؟"!
والمعروف كلما زاد الصوت حدة لا يستطع أن يحافظ على الدفء والحنان في نزوله، بينما صباح كانت تتحكم بذلك من بين كل أبناء جيلها من المطربات، وبعضهن قد يكون صوتهن أقوى ولكن!
ومن تابع حفلات أضواء المدينة في مصر، ومهرجانات بعلبك المفتوحة يكتشف ما اشرنا إليه ببساطة، ودون تكلف من صباح، في تلك المرحلة واضبط صباح على تلميع صوتها بعد أن اكتشفته، وبذكاء منها عرفت كيف تلونه، والانتقال من نغم إلى أخر دون حذر لأنها اختارت عدم سجن صوتها بملحن واحد، وفي كل حفلة كانت تؤدي لعشرات الملحنين، وهذا يخرج كل ما في صوتها، أي عرفت بواطن الرنين في صوتها وانطلقت من الفم وكيفية استخدام لسانها داخل حلقها، وكيف توضب نَفَسها وتخرجه مع صوتها من صدرها أو من رأسها... وهذا يتعب صوت المرأة، لكن صباح مجنونة بصوتها الذي تثق به، وطوعته مع الأيام كما ترغب، لذلك تضخمه وتلينه وترقصه على درجات السلم الموسيقي بثقة، وحينما وصلت صباح إلى عمر الشيخوخة فقد صوتها الكثير، ولكنها، وبشهادة كبار الموسيقيين كانت تؤدي أفضل من عشرات مغنيات هذا الزمن، ويكفي أنها لم تنشز أو تخرج عن النوتة خلال التسجيل، و فطاحل غناء اليوم من إناث وذكور غير قادرين على إجادة أبو الزلف، والألوان التي تقولها صباح،  بل بعض من يغني لها اقل ب 75 بالمائة من مقدرتها الصوتية وشخصيتها، لقد أجادت التعامل مع ما وهبها الله بحرفة عالية.
صوت صباح هو الأرض بكل صورها، ثاقب ومشرق يحمل في رخامته الماء والصخر والبحر والنهر والجبل والسهل ويرفعهم إلى السماء بثقة العبور، وبدلال الروح، وبغنج النساء، وأناقة الألحان، صوتها ليس حظاً، بل هو صناعة كفاح وتعب وتدريب وجهود وحسن الاستماع والإصغاء، وسرعة تعلم، وتواضع الكبار، لذلك هي جامعة وجب دراسة مسيرتها وشخصيتها وصوتها.

#جهاد_أيوب

#الاسطورة_صباح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كبرنا / بقلم جهاد أيوب

كبرنا كبرنا والعمر سكران...بقلم جهاد أيوب كبرنا بسرعة والزمن سبقنا والعمر سكران ع باب مخادعنا ومرق الحلم من هون من خلف منازلنا صار الحكي يوجع وصار الفكر يلمع يمكن النظر شح ويمكن الجسم رخ وضل قلبي يعن وعن حبك يعاتبنا ****************************** حلوت الحلوات ما عادت تذكرنا وربيع الزهر غاب ما سمع حكايتنا ******************************* اليوم اختلف المشوار وصار الصوت ختيار والقلب شو غدار ما عاد يغرد بسيرتنا ******************************* كل ما مرقت صبية كان يعذب فيني وصار يشرد محتار ما بيعرف شو في اسرار يا رب انت القادر الجبار زارع فينا سنين الغار تاركنا نسبح بالمشوار والشيب ع جدران الدار ونسقي حساسين الروح ونشرب المي من عطر مجروح وكبرنا بسرعة والزمن سبقنا والعمر سكران ع باب مخادعنا .

في حوار العمر رفض أن يعود شابا... وراض بما حققه من نجاحات

• رفيق سبيعي  لـ "جهاد أيوب ": بسبب الفن تنكر أهلي لي وعشت معاناة وظلما ً • يوم اعترفت بنا الدولة كفنانين كان يوما مهما في حياتي • كان يطلق على الفنان في السابق كلمة"كشكش" وبسخرية *       نهاد قلعي أسس الدراما السورية وأنصح دريد لحام بالعودة إلى شخصية غوار • حققت بعض أحلامي لكنني لم أصل بعد وهناك الكثير لأفعله • أقول لجيل الشباب ألا يستعجلوا فالشهرة جاءتهم على طبق من ذهب • الإذاعة هي المفضلة عندي لأنها تعتمد على التحدي والتعبير الصوتي • أعيش شخصية الطفل ولم أندم على ما قمت به • لم أجامل على حساب اسمي و رفضت دورا في"باب الحارة" رغم حبي لـ بسام الملا • المطربة صباح من زمن لا يعوض وساندتنا دون أن تجرحنا • علاقتي مع دريد لحام فاترة مع أنني أحترمه كشخص وكفنان هذا الحوار أجريته مع الراحل رفيق سبيعي في دمشق 2010، غمرنا بشرف الزيارة، وأنعشنا بكلام نتعلم منه، حوار أصر أن يقول عنه :"حوار العمر"،  تحدث فيه عن أمور كثيرة، وساعتان من الكلام المباح والجميل دون أن يجرح الآخرين، أو ينتقد من عمل معه، كان كما عهدنا به صاحب الشخصية المجبولة بالعن...

ملحم بركات... موسيقار الفن يرحل موجوعا في غفلة الوطن

بقلم/جهاد أيوب  هو صاحب الموهبة المتوهجة.. هو خامة صوتية متدفقة.. هو يمتلك طبقات صوتية عالية ومؤدية باقتدار.. هو واحة من العطاء الموسيقي، والغنائي، والتمثيلي والكلام، والانتقاد... هو جدلية، رافضة، ومحبة، وعاشقة، وصاخبة يعطي رأيه ويدير كبريائه دون أن يلتفت إلى الوراء. إنه ملحم بركات صاحب التطرف في مواقفه، ولا يعرف المجاملة إلا إذا احب، حينها يلغي كل العيوب، ويصب مائه في خانة الدفاع عن من احب، أو العكس إذ لا مجال للحلول الوسط في مواقفه، ويصب جام غضبه دون تردد على هذا وذاك. ملحم بركات تصارع مع الموت، وتصارع مع البقاء في الفن متميزا، وتصارع مع الافضلية كي يبقى في الواجهة زعيما وحاكما في مملكته، ولا ضرر إن مد صوته لسانه السليط إلى مملكة غيره، لا يخاف من خطأ ارتكبه، ولا يكترث من حرب قرر خوضها، البعض اعتبره مجنونا في فنه وصراعاته ورأيه، وأخر اعتبره طيبا، أما أنا كاتب هذه السطور فاعتبره صديقا مزاجيا بامتياز، صافيا بانسانيته، ثائرا كلما شعر بالخطر بقترب منه ومن وطنه. عرفته في كل الظروف، عرفت اطباعه، وجادلته دون الوصول إلى تغيير رأيه، وبصراحة دائما في رأيه السياسي يصيب، ولكن ف...