بقلم\\ جهاد أيوب
• في بداياتها لم يتقبل صوتها واعتبر مستعاراً وصغيراً وجديداً
• جودت القرآن فهذب الصوت الذي ينطق لغة الضاد بحرفة
• ألأخوين رحباني ادخلا صوت فيروز إلى عالم الغناء الصحيح والمنوع
• تسلل فيلمون وعبد الوهاب لم يبعدهما عن شبك الرحابنة
• زياد تفهم مراحل عمر صوت فيروز فأشعل ثورة انقلابية مغايرة
فيروز : ( alto Leger )، نوع صوتها التو ليجر، واعتبر صوتاً جديداً، وصغيراً ومستعاراً حينما بدأت أمام مطربات قديرات سبقنها أو أمام أبناء جيلها، ومع الزمن، وفهم الأخوين رحباني لخصوصيته جعلاه منفتحاً على مختلف أنواع الفنون الموسيقية، وبالتحديد الموسيقى المسرحية المعتمدة على رشاقة الجملة اللحنية والصوت ألكنائسي المشغول بمفردات موسيقية غربية وبيزنطية.
كما درب صوت فيروز على مختلف أنواع الفنون، والأهم ثقل من خلال تجويد القرآن، وهذب من خلال قراءة الشعر مما وضب توضيباً صحيحاً في نطق اللغة العربية، ومفردات اللهجة اللبنانية التي يجهلها جيل اليوم خلال الغناء المحلي!
حلم عاصي ومنصور كان الاختلاف عن السائد في الغناء العربي، ويحتاجان إلى صوت يسبح مع مشوار جنونهما، وكان اللقاء، وبدأت صعاب العمل المختلف حيث رفض الثالوث من الإذاعة اللبنانية، واتهموا بتشويه الغناء العربي ففتحت إذاعة دمشق أبوابها لهم.
الإدراك
أدرك الأخوين عمق حساسية وسحر صوت فيروز، وادخلاه بثقة وجهد وحلم إلى عالم الغناء الصحيح والمنوع، وزاوجوه بكلمات شعرية غاية بالصور الحالمة المشبعة بالحنين.
ومع الزمن والتجريب الرحباني تغيرت ملامح صوت فيروز، وأصبح غنياً بالطبقات المنخفضة، صوتها عريض، وجميل، تجيد صاحبته الغناء الشرقي دون خوف بـ 11 مقاماً سليماً، والأهم إنها تزيد مقاماً إذا استعملت صوتها المستعار ليصبح 12 مقاماً، وينطلق صوتها المستعار من الرأس في بعض أغانيها حيث يرتفع ويحافظ على جماليته.
أحببت صوت فيروز أو عكس ذلك، لكنك لا تستطيع إلغاء دورها مع الرحابنة في تقديم فناً جميلاً، أعطى الغناء العربي مساحة مختلفة عن السائد، ونحت بصمة فيها خصوصية في مرحلة من الصعوبة أن تكون مختلفاً.
لصوت فيروز المطواع سحره الذي لا يضاهيه أي سحر، يأخذك إلى أفاق ترسم من خلالها ما ترغب به، وتسبح في نغماته حتى الراحة المنعشة رغم ضيق الغرفة، وتساقط الثلوج، والكانون الصغير، هو صوت الروعة، ينزل من السماء طارقاً أبواب الرحيل المشبع بعاصفة السفر، ويدخل الذاكرة والفؤاد، يحتضنك، وتسامره، وتسهر معه دون كلل، وينقل اللقاء مع الرحابنة حتى تسلم نجمة السماء أوراق اعتمادها إلى فحم يذوب من الاشتعال حتى الجفاف في موقد الشتاء!
المراحل
مر صوت فيروز في ثلاث مراحل، وتغير مع الزمن كما حال العمر، كان مع حليم الرومي حينما كانت في كورس الإذاعة اللبنانية مجرد صوت يبحث عن ذاته، ويحاول الدخول إلى الغناء الشرقي العام، ولكن مع تجربة عاصي ومنصور دخل إلى عالم لا يشبه المطروح عربياً، ومزج بالزخرفة الشرقية والغربية، ولبنن بطريقة سلسة وسحرية غير مزعجة، وهنا كانت الملامح الأهم في مشوار فيروز، وقدم صوتها مسرحياً حيث اقترب من الناس، وأصبح يشبه العصر الذي يعيشه من خلال التغيير في الخطاب الثقافي والموسيقي.
ثقف صوت فيروز، وسجن في الأجواء الملائكية، وصل إلى أبعد من الحدود، ومع ذلك قيد في إطار رحباني بحت، وكان يتسلل إليه فيلمون وهبي، فيحدث انقلاباً في غنائه يتردد على الألسن مباشرة، ولذكاء الرحابنة وزعت تجارب فيلمون مع فيروز فكان الناس تقول انها من أعمال الأخوين، حتى محمد عبد الوهاب وقع في الأسر حينما لحن لصوت فيروز!
كان ينزعج فيلمون من ذلك، لكنه كان سعيداً في تسلله هذا، وقدم لصوت فيروز أجمل ما غنت من عربها الشرقية، وهذه الأعمال قربتها من الناس أكثر، وجعلتها تكتشف شرقية صوتها ولبنانية نغماته بتميز.
ذروة عطاء غناء فيروز حينما كانت ضمن فريق الأخوين رحباني "ملوك الكلمة واللحن والتوزيع"، وشكلوا معاً الثالوث الفني المجدد في الفن العربي مهما انتقدوا في حينه، لا بل نالوا هجوماً مخيفاً من بعض النقاد، ولو تخلله تدخل من فيلمون وهبي وعبد الوهاب، وأخيراً زكي ناصيف، لكن ذهب المرحلة كان مع عاصي ومنصور حيث فتح على أفاق جديدة، وقدم ما هو ثقل الإبداع النغمي والبوحي، تلك التجربة تشبه كثيراً تجربة فريق "البيتلز" في الستينيات، وفرقة "أبا " السويدية في السبعينيات، وعند ما وقع الانفصال في هذين الفريقين لم ينتج من أفرادهما أي عمل فردي، بل بقيت إعمالهما الجماعية خالدة كفريقين!
التجربة المسرحية
عمل فيروز في المسرح الرحباني له عالمه الخاص، وهذا ثبتها في الوجدان وعالم الغناء، وجعلها خالدة أكثر من الغناء في الحفلات على عكس اليوم، لا بل لا مجال للمقارنة بما يجري اليوم فلا احد يخرج من مسرحية غنائية وفي باله أغنية أو حوار سمعه وحفظه.
في المسرح ذهبت فيروز إلى عمق التخاطب مع جيل عاش معها مباشرة عبر الأداء التمثيلي، والغناء التمثيلي بكل فصوله، وأيضاً شاهدها تغني تطرب وتفرض كل ما هو جديد في الشعر واللحن والتوزيع والأداء، وتقبل جمهورها كل ما تقدمه ليس تعصباً بل لأنها أصبحت في تلك المرحلة واثقة من استخدام صوتها بعد أن أثقل بالتدريب الصحيح، ولون في أداء منوع، وانطلق بحرية عبر مقامات رسمت لها بدقة وعناية، ورغم تمثيلها المسرحي النمطي لم يتأثر جمهورها بذلك، بل ذهب معها إلى حيث أرادت، وعاش مع نبرات صوتها كما لو كان الدواء.
ولا ننسى أن صوت فيروز في الحروب العربية، وبالأخص في الحروب اللبنانية كان رفيق الغالبية الخائفة من المقبل، ولم تبخل الإذاعات اللبنانية من سكب صوت فيروز على مساحة زمن موجاتها، وهذا فرض الصوت السحري على الأذن حتى العطش، وراح يواكب تفاصيل كل حالة، ربما انزعج البعض من هذا الانفلاش، وحتى فيروز كانت لا تحب فرض صوتها في حالات الموت والدمار، ولكن صوت فيروز كان مطلباً للغالبية الرافضة لمفهوم حروبنا الهمجية.
صوت فيروز يسكن الحنين، ويسري بين الرصاص رافضاً التقاتل لكنه رفيق رنين البارود ليذكرنا أن للحياة أنغامها الوردية، وتجربتها مع زياد الرحباني أبعد صوتها من قيود التفرغ لساحات الحروب والموت!
مع زياد
تبقى تجربة زياد العبقري مع صوت فيروز محطة توازي التجربة مع الأب والعم مهما اختلفنا في بصمتها، ومهما هاجمها عشاق صوت فيروز الكلاسيكيين...
زياد أطلق سراح صوت فيروز من سجنه الرومانسي والملائكي، أنزله إلى الشارع التي غنت له وهي في قصرها العاجي، تعرف إلى أناسه بكل حالاتهم النفسية والاجتماعية، غازل عشاقه بمفرداتهم، وجالسهم مع يومياتهم، وشاركهم لحظاتهم الصعبة والسعيدة، وجلس على موائدهم حيث الزيتون والبندورة واللبن والشاي وفنجان القهوة، وسافر معهم عبر هدير البوسطة إلى جانب عليا والسكران... تجربة قلبت مقاييس ما قدمته فيروز سابقاً مع غير زياد الذي جعلها تشبه الجميع، وفرض عليها كسر كل القيود.
في الموسيقى استغل زياد صوت فيروز وشهرتها كي يقدم قوالب لحنية جديدة، جعلها عبر نغماتها الشرقية وتوزيعها الغني والحساس مرحلة تحسب له كمجدد، وتسجل لفيروز كمغامرة سكنت إلى جانب "الكانون" والشتاء و"الشيميني" طويلاً، وجاء جنون الرحيل كي تخلع المعطف الرمادي وترتدي القماش الشفاف لتصبح امرأة الشارع بكل فصوله، ومن يسمع فيروز في الحان زياد يدرك كم هي فرحة، وكم يغرد صوتها عالياً، وكم الأجواء صاخبة، وهذا لم تألفه مطلقاً في السابق رغم ملامح الفرح في بعض المشاهد المسرحية.
زياد مع فيروز قدم زياد ولم يقدم فيروز الكلاسيكية، أخذها إلى حيث أراد، ولم تأخذه إلى حيث هي، وجعلها تسكن في ألحانه وجنون أنغامه، ولم يكترث للثرثرة الكلامية بل همه تقديم مشروعه الموسيقي ونجح.
في الكلام المغنى حاول زياد أن يكسر كلاسيكية ما غنته فيروز من شعر حالم، كان واقعياً بمفرداته وحالاته وجنونه الشعبي والشوارعي، وهذا ما أغضب عشاق فيروز القديمة، يريدون سجنها في ماضي غنائها، وزياد يريدها منفلتة، وهي أدركت الزمن والجمهور المتغير وحركة الوقت وتداعيات الأوضاع الاقتصادية التي فرضت تغيراً وقع على ذوق الناس فوافقت على المغامرة، وبرأيي أنها خير ما فعلت بتلك النقلة، هنا فيروز أدخلت صوتها تجربتها تاريخها مرحلة جديدة فيها أكثر من جيل جديد وشبابي قد لا يعنيه الماضي الذي أصبح بعيداً، وبعيداً جداً!
على صعيد صوت فيروز مع زياد لم يكن هو ذاته الصافي والعذراء مع الأخوين، بل ملامح تغيرات السنين والعمر كانت واضحة، وأصبح حاداً وعريضاً لكنها كانت تتحكم به بذكاء، وبسبب عدم كثافة ظهورها جعلت جمهورها يشتاق إلى صوتها ولا يهتم لتغيراته التي أصيب بها وشيخوخة بعض أوتاره مع العمر، ولكن ذكاء زياد لم يجعل المتلقي يلتفت لذلك، والطريقة الشبابية الواقعية التي غنت فيها فيروز حيث استخدمت لصوتها حرية الانتقال مع بسمة وضحكة أبعدته عن ميزان النقد، ولم تعر العمر أي أهمية، ولم يلتفت المستمع إلى حال مستوى الصوت وفقدان بريقه القديم، وظهور الحدة فيه، وهذه الحدة استخدمها زياد بذكاء دون أن تزعج السمع.
وفق زياد مع صوت فيروز، ونقله من حالة إلى حالات، وكل من انتقد تلك التجربة عاد مطواعاً للاستماع إليها، وتحديدا في "كيفك أنت"!
صوت فيروز ساحر السحر، وأيقوني الجمال، يأتي من السماء محملاُ بسكون الليل، وضوء القمر، يرقص مع الندى وحبات المطر، عشنا معه الكثير من الألوان والأشكال، والمواضيع الحياتية حتى تكرس في حياتنا اليومية.
#جهاد_أيوب
#فيروز
#الاخوين_رحباني
#زياد_الرحباني
تعليقات
إرسال تعليق