رسائل سلاف فواخرجي تحمل الحب الدفين وقضية وطن
• إذا لم تحب فلسطين لا تستطيع ان تحب سورية ولا أن تكون أنت
• هجرت سلاف في نصها الثرثرة التي اعتادها الفيلم العربي وتعمدت
الرمزية لفرض التفكير
• إذا لم تحب فلسطين لا تستطيع ان تحب سورية ولا أن تكون أنت
• هجرت سلاف في نصها الثرثرة التي اعتادها الفيلم العربي وتعمدت
الرمزية لفرض التفكير
بقلم||جهاد أيوب
العودة بعد غياب دام لأكثر من خمس سنوات عن دمشق يعني العودة إلى رحم الوفاء والأرض المباركة، والعودة إلى حياكة العباءة العربية من جديد بعد أن مزقها جهل الحاقدين من الأعراب والقتلة المستعمرين...الزيارة بدعوة من الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون و"سيريتل" و القديرة الممثلة المخرجة سلاف فواخرجي لمناسبة اطلاق فيلمها الأول " رسائل الكرز" ... الدخول الى الأراضي السورية من البوابة اللبنانية يشوبه الكثير من القلق ومن الحيرة فالإعلام صور تلك الحدود في زاوية غير مرئية من الكرة الأرضية رغم تكاثر الخطاب الدامي من حولها، طبعوها داخل كاميرات لا تلتقط الحقيقة وصاحبوها مع خبر كل حرف فيه يتوج بعرس الكذب.. ونكذب إذا قلنا لم ندخلها خائفين، نعم الصمت ابلغ الكلام والنظر يصنع الدهشة.. الكل يرحب بنا والحزن واضع المعالم، بلد تحارب على جبهات و كل زمر الساسة والعسكر والإرهاب في الأرض ولا يزال شعبها يرحب بك.!. انها معضلة لا يفهمها غير عشاق التاريخ، بلد حاول ابن العم احراقها لا تزال ترابها تعرفنا وترقص تحت اقدامنا طرباً ومحبة تستحق أن نصرخ عالياً بأنها فينا ونحن من ترابها، بلد وشعب ذبحا على اعتاب الدين والمقدسات بحجة الرب والرب من هؤلاء القتلة براء ولا تستحق سوريا غير ان ننحني كلما ذكر اسمها...مشوار الطريق مع الزملاء عماد مرمل وهدى الأسير قصر مسافة القلق، والحوار خفف وطأة الخوف إلى حين وصلنا فلم نجد غير التنظيم الجيد والبسمة الحزينة واللهفة للقاء ضيوف من لبنان ومصر والجزائر والأردن، شخصيات سياسية وفنية وأدبية وإعلامية حاضرة تراقب وتنتظر وتعلق..
الفيلم قاعة دار الأسد تنتظر الحضور وعرض الفيلم الذي تخلله حفل تكريم للمخرجة وتقديم هدية التكريم من القدير دريد لحام ومن ثم مؤتمر صحفي حول الفيلم، حضور متعطش للقاء كل زائر يدركون أنه منهم ويخاف عليهم، والتنظيم مدروس ليكون الحفل عرسا لبطلته سلاف، وما ان وصلنا الدار حتى غرقنا بالترحيب والتصوير وكلام الشوق والحنان وسعادة اللقاء والعتاب باحترام ..الفيلم" رسائل الكرز" تجربة أولى في السيناريو والحوار والإخراج لـ سلاف فواخرجي، قصة وفكرة نضال قوشحة، منتج فني شركة شغف، وموسيقى هايك يازجيان، ومن بطولة الشاب محمود نصر والقدير غسان مسعود وجيانا عيد وانطوانيت نجيب وابتسام أديب وناصر مرقبي وعماد السمان وباسل حيدر وجيرار اّغباشيان ووجدي عبيد وعلي رمضان.
قصة حب يدور الفيلم حول قصة حب تبدأ من الصغر حتى المشيب دون أن تتكلل بالزواج مع استمرارها وعمقها وجذورها الممتدة من فلسطين إلى الجولان السوري مروراً بالقنيطرة...قصة حب تعتمد على فكرة أن الحب هو القوة التي تغير اللحظة بين عاشقين تربطهما حكاية وطن يسرق بفجور العدو الصهيوني مع لمحة مؤلمة من واقع الحال، قصة كفاح اهل منطقة تكتب المستقبل الذي تأخر بدم الكرز كي ترجع فلسطين إلى أهلها وكي تعود سورية تلك الايقونة العربية الأكثر اماناً وأمناً.. تبدأ الحكاية في 7 نيسان 1946 حيث ولادة طفل - علاء- في الجولان ولحظة ولادته تزرع لأجله شجرة الكرز الرمز والحبر والشاهد مروراً بأحداث فلسطين 1948 ودمشق والجولان 1967 وانتصار تشرين الثاني 1973 المصحوب بوصية الجندي ودلالات غناء عبد الحليم حافظ ومراحل تلك الحقبة، أما اغنية سهام شماس عن الغرام عولجت بدقة وفرضت بعناية ذكية مع اقحام احداث 2013 بذكاء. تخوض سلاف تجربة فيها الكثير من المغامرة ومن الألم الذاتي تجاه الأرض والقضية الكبرى والهوية، ولا تخاف إذا فرضت فكرها اسلوبها طريقتها، تريد أن لا تشبه غيرها لذلك قدمت كادرها باتزان ولوحة تشكيلية تشبه سينوغرافيا مسرحية تعتمد على طبيعة خلابة ورؤية لالتقاط المشهد بكاميرا سينمائية مشبعة بالحزن والقليل من الفرح...عمل ارتكز على فكرة واقعية مجسدة بأبطال من لحم ودم وبقليل من حوارات اللسان ليغرق الفيلم بحوارات المشهد والحركة والأداء التعبيري حيث ابلغ الكلام، هجرت سلاف في نصها الثرثرة التي اعتادها الفيلم العربي وتعمدت الرمزية ليس هرباً بل محاولة لفرض التفكير من قبل المشاهد، رمزية غير مزعجة ومطلوبة اليوم بعيداً عن الهرولة من الواقع، وفرضت ما تفكر به عبر الصورة وهذا ما يبرر الكثير من الرمزية، ربما ينتقد البعض كيف أن العاشقان يكبران وملامح ايديهما شبابية ملطخة بدماء الكرز وتظهر بوضوح حينما يفتحان نافذة من الاسلاك الشائكة على منزل اجدادهما، وهنا الحالة متعمدة وذكية ذلك للدلالة على أن القضية الكبرى تبقى شابة مهما مر الزمان عليها، وربما نختلف مع سلاف حول رؤيتها لنهاية الفيلم الذي شعرنا أن له أكثر من نهاية، الأولى الدخول إلى القنيطرة وهنا ينتهي الفيلم مع ترك الافاق مفتوحة لأحداث غير مرئية، والنهاية الثانية جاءت مركبة لعرس يعتمد على الزجل والقوالة دون أي مبرر فالوقوف أمام منزل الأجداد والماضي الذي سجن في قارورة الاحتلال يُركب على نهاية مشهد ما بعد الدخول إلى القنيطرة لأن رمزيته واضحة ويشتغل فيها كخاتمة تدعونا للانتظار والدهشة.. حركت سلاف ابطالها كما لو كانت صاحبة خبرة طويلة في السينما، هي ممثلة تتحرك تحت إدارة المخرج، وهنا هي تمثل في الإخراج لذلك نجد أداء الممثلين مفعماً بالحنين والرومانسية والصمود المنطقي والحركة الواعية بنص لا يثرثر ويختصر اللحظة من دون لت وعجن، وكان واضحاً جهد سلاف البصري في دراسة معمقة لتفاصيل المشهد، واعتبرت أن التفاصيل الصغيرة في المشهد تساعد عن صدق التوصيل وليس الاعتماد على أداء وحركة الممثل فقط، ومن هنا نجد كل تفاصيل الديكور مطرزة بمرحلة تاريخية غنية بمفرداتها لأن المخرجة اعتمدت منذ البداية على الفكرة وكيفية تصويرها لا على حشو أداء الممثلين واستخدام الموسيقى التصورية كجزء مكمل للحوار والصورة خاصة أن الموسيقى مشغولة بفهم ووعي وعناية، وقد يكون مشهد دخول البطل والبطلة منزل الأجداد حيث دام لأكثر من 8 دقائق الأجمل وصورة حقيقية لإشارتي، هذا المشهد التعبيري الرومانسي والغارق بالحب العذري دون التعري الجسدي والقبل الرخيصة والمجامعة غير المبررة وصلت الينا دون خدش او تعمد، وصلت من أداء ناضج وكاميرا تعرف سرقة اللحظة وتسجيلها وحركة مفعمة ونص ثاقب واضاءة غنية غير مسطحة بل شريكة فعالة بمشهد غرامي يغرق بالعسل العشقي، وموسيقى ناطقة بلفة اللحظة، ورغم طول دقائق المشهد لم نشعر بالملل لا بل طلبنا المزيد!! "رسائل الكرز" نفذ في ظروف سورية صعبة كشف لنا عن مخرجة ليست ساذجة بل لديها رؤية، وهذا الأخير أصبحنا نفتقده في اعمال تنفذ بسرعة البرق دون بحث، مخرجة تعتمد على الصبر كي تنال ما تريده، ليست عصبية المزاج في التقاط مشهدها بل قلقة وخائفة حتى تصل إلى بعض الرضا، سلاف في هذا الفيلم التجربة يعني أننا حصلنا على مخرجة سينمائية روائية بامتياز، وتحمل أعمالها لغة تشبه مجتمع يبحث عن حاله وحالاته، ولم تهرب من الواقع فيكفي ان تنهي فيلمها بحوار" إذا ما بتحب فلسطين ما فيك تحب سورية ... ولا أن تكون أنت"!!
أداء الفنان الشاب محمود نصر ملفتاً ويزيد من وهج الفيلم، واستطاع ان ينفذ رؤية الإخراج بدقة وببساطة عميقة، هذا الشاب يؤدي بجوارحه ويتحدث بجسده المطواع وبحركة غنية تنم عن ثقافة فنية مسؤولة، ربما هذا الدور "مواطن عاشق يولد ويكبر مع الزمن حتى شيخوخة نهاية العمر" سيطرحه نجماً يحسب له الحساب في السينما السورية والدراما، لا ينقص نصر صفحة من صفحات النجومية ربما تنقصه الفرص!
غسان مسعود فنان له حضوره واحترامه لكن الدور فلت منه في اكثر من مشهد أهمها حينما اخذ يعزف على المنجيرة، فحركة أصابع يده لم تكن بمحلها إضافة الى ملامح الوجه، اما مشهد اطلاق النار فكان غاية بالجمال والأداء، وقد تعمدت سلاف أن لا يصلنا فقدانه للبصر الا في نهاية كل مشهد للدلالة على ذكاء البطل وثورته التي لا تهدأ، ودانا مارديني البطلة العاشقة رشيقة مطواعة جسدياً ولفظاً وانفعالاً، وغنية في التعبير ووفية للمشهد لا تتصنع فيه ولا تستعرض جمالها كي تسجنه في خانتها بل هي تسير ضمن خط درامي يتحكم فيه المخرج ، وجيانا عيد تعمدت الرمزية وتصاعد وتيرة الصمت البليغ في حركتها، كانت مقنعة وهامسة، وانطوانيت نجيب بركة الفيلم وسيدة في كل ما تقدمه، أما فريق التمثيلي كان في اجمل حالاته. "رسائل الكرز" لـ سلاف فواخرجي يندرج ضمن الأفلام الروائية التي تبحث عن مساحة لا تشبه الاخرين، وقد تكون التجارب المقبلة أكثر ثراء لاعتمادها على الزمن والوقت وتجدد حروب الواقع وتفهمها والعمر وهذا ليس عيباً بل سنة الفن.
تعليقات
إرسال تعليق