التخطي إلى المحتوى الرئيسي

يختزل الزمان ويسحر المكان ويجمل الكلام/ الشيخ أحمد حويلي يسرق الروح في اداء تصوفي ويعيدها إلى طهارة العشيق




بقل// جهاد أيوب

عديدة هي الجلسات الصوفية التي نحضرها دون أن تترك بصمتها على خد انفسنا، وقليلة هي الحفلات التصوفية التي تفرض النغم، وتُسبح مع الكلمة، وتتصالح مع الذات والعشيق الأول والأخير والدائم عبر الصوت الواثق الذي يذوب بين الروح والحنجرة والأداء كصلاة تطهر لحظاتنا...
وهذا ما رسمه المنشد الشيخ أحمد حويلي في "العشيق هويتي" على "مسرح بيار ابي خاطر" في "الجامعة اليسوعية" منذ أيام حيث اختزل الزمان، وسحر المكان، وجمل الكلام.
لم تكن أمسية أحمد حويلي على المسرح مع فرقته الموسيقية مجرد حالة عابرة، ولم تكن حشواً لزماننا كمهرباً من قساوتنا على انفسنا، أو لتعمدنا تشويه الروح فينا، وفرض تخاصم الروح والنفس في معركة الفرقان الإنساني، والتفرقة بين البشر، أو هي شاهدة زور على هروب الحياة منا إلى فضاء مفتوح على كل الاحتمالات الموحشة، بل كانت أمسية ذهبية رسمت حدود انطلاقة فعلية جديدة لصوت يَعبر إلى حبيبه دوماً...
وفي تلك الامسية قُدم الصوت بتطوير الحالة الإسلوب التصوفي ليخاطب الجميع، ليطلق باب الفكر كقضية وليس لمجرد حالة، كقيمة روحية وليس لاستغلال الفرصة، كجلسة تصالحية نابعة من العمق وليس من مجرد الشكل الصورة الحرفة الغنائية أو التقديرية، وليست اسلوباً تقريرياً في دنيا الغناء والسلام!
السكون يسكن المكان، تشعر قبل الانطلاقة بانك ستنطلق دون معرفة المحطة، واللحظة مع أنك تنتظر ما يُنتظر ولا تدرك ما هو المنتظر، تحاول ان تثبت نظرك، فيفرض عليك السمع لكل نغمة مقبلة من زاوية تعني هي الكون...
تسحرك النغمة التي تغازل شقيقاتها من الات مغايرة ومتجانسة، وكل قطعة الة موسيقية تُصلي في وتر يمهد إلى حالة معينة تُفرض فرضاً دون أن ندري!
* الحضور
من شِعر مهدي منصور بدأت الانطلاقة، لم تكن موفقة كثيراً، الاختيار عادي، والانسجام ليس كلياً لكن مقدرات الصوت والحضور واضحة، و في "سلبت ليلى على العقل" - ابن عربي - اختلاف جميل، ونغمة جملة متميزة، واصر احمد أن لا يستخدم عضلات صوته بل حنان الصوت، والسهل الصعب، والاداء المتقن دون استخدامات لا لزوم لها...شعرنا اننا أمام شخصية طربية مقتدرة.
"الا يا أيها الساقي" -حافظ الشيرازي- و" أنا مذ غبت لم انم" تألق الصوت مع الاحساس، وسافر عن المربع الصغير الذي يقال عنه "مسرح"...أصبح في مكان ما، خارج اللحظة، ولا نجامل إن أحمد في رسالة زينب يجيبك على فعل اللحظة الموجعة، وأن تُلملم عاطفتك، وتضعها في دمعة تسقط دون ارادتك، هنا صرخة روحية تفوق فيها على كل الأحاسيس...
يبدع أحمد في ارتجالاته، لا يعرف الوصول لكنه مسافر إلى ابعد من مجرد تمتمات، أبعد من المكان والكلمات، هو يؤدي من الداخل، ومن المستحيل هذا الصوت الرقيق هو المتمكن لدرجة تقدمك وانت من سافر معه...وهذا دليل آخر على أن الروح إن أدت من ذاتها لا تحتاج إلى إمكانيات الآخر، و تعطي المؤدي ذهبية البوح، وسر النطق المتالق، وسحر التأنق الغنائي الذي يجعلك تدرك أن الصلاة هي نغم الروح، وتغذيه...
وقد تفوق في السفر المحلق حينما جلس على الارض ليعلن الوداع فكان أن أعلن بأن بطاقة عودة السفر قد بدأت من جديد...
يسرق أحمد حويلي من صدق مشاعره الروح، ينفض عنها غبار التعب، يحاورها، ويناجيها، ويصالحها مع ذواتها، وبعد أن يصيبها بداء الانتعاش يعيدها إلى مكانها أكثر تحرراً واكبر تسامحاً لتُوصلنا إلى الضوء...
* التجربة
تجربة ناضجة في أداء متمكن، وحضور لافت يرسم خطواته الصوت العذب، والانيق في استخدامه بحدة وبحب، بصفاء وجموح، بصلاة وحنان لا يعرفها من يدعي الايمان، ومن يتغنى بالغناء، ولكن أحمد اشتغل موهبته المؤمن بها ليعطي مخارج حروف سليمة لا غبار التعب عليها، النطق واضح المعالم، استخدام النفس بدقة حتى يمكنه من الصعود والنزول بسلاسة، والجميل أنه يبدأ كما ينتهي كأن الامسية لم تنطلق بعد!!
يتجول أحمد في صوته ذاتياً ويصل إلى القرار والجواب رغم رقة الصوت، وهذا دليل على تدريبه الصح، وعلى انغماسه معه حتى ينسى مساحته فيصير فيه، ويأخذنا معه إلى آفاق السجود في غيمة لا علاقة للأرض فيها!
تجربة ستجد صداها مع الأيام، وستتبلور بالتأكيد إلى الأفضل مع تدريبات خاصة، وعزيمة جامحة إلى نقل هذا النوع من التواصل عن طريق الفن الغنائي المسؤول والمختلف إلى أن يصبح للجميع، والوصول إلى الجميع لا أن يبقى اسيراً للنخبة الخاصة جداً...
لفتنا عازف العود اسامة عبد الفتاح دون استعراضات، هو دينمو الفرقة، قدم مهنية عالية مع المجموعة، ومع المؤدي أحمد، وفي عزفه المنفرد...وايضاً كان للعازف الشاب الاصغر سناً كيفورك كشيشيان (فلوت/ دودوك) تميزه بعيداً عن التعمد، في كل لحظات الحفل هو يراقب المؤدي أحمد ويدرب نَفَسه، ويستخدم انفاسه، ويحلق مبتسماً في عزفه الآخاذ، هو قد لا يفقه باللغة العربية الصعبة التي تُنشد لكنه يعيش حالات أنغامه وأنغام رفاقه على المسرح...موهبة واضحة في اختلافها.
محمد نحاس ( قانون) لم يلفتنا خلال عزفه داخل المجاميع، وحينما انفرد كان ذهب الحضور، يعزف برشاقة الروح، والخبرة المعتمدة على الطفولة، عزفه هو يزيد من قيمة المكان والامسية، يعزف كما لو كان ينطق...
الشباب الثلاثة الذين قدموا رقصة سما أو الدرويش برعوا، وتجلوا، واتقنوا...
باختصار أمسية الشيخ أحمد حويلي "العشيق هويتي" حاجة ضرورية لتغذية الروح، وقيمة سمعية لإعادة الاعتبار إلى السمع، و تقنية لفظية في دنيا النطق والصوت، واليوم في زمن القحط الغنائي والفني والإنساني نحتاج إلى تقديم الإختلاف أو الاداء الصوفية بجدية، وبمسؤولية تقربه إلى الناس، ولا تتركه في سجن نخبة معينة!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هذه أصواتهن وتجربتهن في الميزان النقدي الحلقة 6 من 8

جوليا بطرس وغياب المغامرة و نجوى كرم التخطيط المغاير بقلم\\ جهاد أيوب • صوت جوليا ثاقب وحساس لا يزعج ويصل بمحدودية • تتعامل جوليا مع صوتها وفنها بكسل دون السفر والبحث • تبدع جوليا في الغناء الوطني والثوري ولا تقنعنا عاطفياً! • نجوى نجمة مزيج من جامعة صباح وأسلوب سميرة توفيق • تمتلك نجوى بحة رائعة لا تعرف استخدامها أحياناً • تتعامل نجوى بحساسية مفرطة مع الملحنين والشعراء ومن حولها يطبل لها كثيرا! جوليا بطرس : صوتها (  alto ). صوت جوليا هادئ، وثاقب، ولماح، يأخذك إلى أفاق ناعمة دون إزعاج، له خصوصية شفافة، ومن قماشه حساسة، ونظراً لعدم المغامرة والتنويع يصلنا بمحدودية ضيقة مع إن الفاهمين بعلم الأصوات يجدون فيه أكثر من ذلك، ولو أن صاحبته غامرت لكانت النتائج مغايرة كلياً. وبصراحة، ورغم أسلوب جوليا في إتقان الغناء الثوري، هي تتعامل مع صوتها بكسل لا يستحقه، وعلى ما يبدو لا تحب المغامرة ونشدد على المغامرة، ولا تسعى للسفر إلى نمط تلحيني وشعري مغاير لخطها، وهذا إن وافقت أو انزعجت يضر بصوتها وبتجربتها، ويضعها في مساحة تتكرر، وتضيق عليها وعلى مسامعنا، ولا أفهم لماذا لا تغامر ...

مبروك تلفزيون لبنان ونبارك للزميل جهاد أيوب على تفوق حلقة "المجد ملحم بركات" وهذه ملاحظاتنا

بقلم// طانيوس أندراوس  ساعتان ونصف الساعة قضيناها مع أبو مجد دون ملل، لا بل رغبنا لو كانت أطول...وبعد النجاح الكبير ونسبة المشاهدة العالية لحلقة "الايقونة صباح" اعتقدنا أنها حلقة عابرة من تلفزيون لبنان، ومجرد خطوة مشرقة للزميل الناقد جهاد أيوب، ولكن بعد متابعتنا لحلقة "المجد ملحم بركات" وتلمسنا النجاح المتميز، ونبش ذاكرة بطريقة نظيفة خارج الثرثرة الإعلامية الفضائحية التي اعتدناها في العالم العربي وخاصة في لبنان لا بد من أن نبارك للتلفزيون الأم والأب تلفزيون لبنان، ونشد على يد الزميل الناقد المسؤول جهاد أيوب لنجاح فكرته في تكريم كبارنا. كل يوم نكتشف الذاكرة الذهبية الرائدة في أرشيف تلفزيون لبنان، أرشيف عرض في حلقة ملحم بركات بطريقة ذكية، غاية بالحساسية دون إلغاء أو تعمد، وببساطة شعرنا بتاريخ أبو مجد منذ البداية حتى رحيل، والعفوية كانت في أننا لم نشعر بالملل، وأصرينا أن نشاهدها في الإعادة أيضاً. أن يغامر تلفزيون لبنان في تقديم حلقات تكريمية دسمة بهذا الحجم عن كبارنا في لحظة سباق التنافس الفضائي اللبناني حول من يقدم برامج الفضائح والسذاجة يعني أنه الت...

عن شذى حسون وأدم في "حرب النجوم"

بقلم//جهاد أيوب الحلقة الاخيرة من البرنامج الانجح والاجمل #حرب_النجوم  مع الفنان الذكي #هيثم_زياد كانت جميلة، لا بل ممتعة، وادخلت البهجة والفرح، ومميزة مع المطربة #شذى_حسون والمطرب #أدم . المطرب أدم صوت مهم جدا، وحساس فوق العادة، يشبه الكرستال في لمعانه وحساسيته وصداه، ورغم ذلك اخذ راحته كثيرا في البرنامج، وهذا خطأ اشعرنا كما لو كان في الشارع، وفوضويته مزعجة، وتعليقاته اضرته...يحتاج إلى التروي إن حكى، والاهتمام بمظهره، والابتعاد عن الارتجال غير المسؤول، وتدريب صوته أكثر فرغم جمالياته تاه منه في اماكن كثيرة! أدم من اجمل الاصوات، وعليه اعادة النظر بخطته الفنية والإعلامية ليصل إلى مكان يليق به... المطربة شذى حسون صوت من ذهب، يؤدي كل انواع الغناء والتطريب، وجمالها يلفت بنعومة جاذبة، ولكن الغباء الثقافي الفني كان واضحا ولا يليق بهذه الموهبة. كان عليها الاهتمام بمظهرها في الحلقة، وتستخدم نعومتها اكثر مع دلال يليق بها...صوت له المستقبل إذا عرفت التخطيط وليس الشهرة السريعة فقط! "حرب النجوم" اهم برنامج منوعات في الوطن العربي، رشاقة واناقة، ومذيع حكم مطرب سريع البديهة وح...